فصل: تفسير الآيات (18- 28):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (18- 28):

{كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (19) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21) إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26) وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28)}
يقول الحق جلّ جلاله: {كلاَّ}، ردع للمكذبين، ثم بيّن حال الأبرار، فقال: {إنَّ كتاب الأبرارِ} أي: ما كتب من أعمالهم، والأبرار: المؤمنون المطيعون، لأنه ذُكر في مقابلة الفُجَّار، وعن الحسن: البرّ: الذي لا يؤذي الذرّ، {لفي عليين}، قال الفراء: هو اسم على صيغة الجمع لا واحد له، وقيل: واحده عِلِّيّ، وعلِّيه وأيًّا ما كان فهو موضع في أعلى الجنة، يسكنه المقربون. قال ابن عمر رضي الله عنه: إنّ أهل عليين لينظرون إلى أهل الجنة من كوى، فإذا أشرف رجل أشرقت له الجنة، وقالوا: قد اطلع علينا رجل من أهل عليين، وقال في البدور: إنَّ الرجل من أهل عليين ليخرج فيسير في ملكه، فلا تبقى خيمة من خيام الجنة إلا ويدخلها ضوء من وجهه، حتى إنهم يستنشقون ريحه ويقولون: واهاً لهذه الريح الطيبة.. الحديث.. وتقدّم قوله صلى الله عليه وسلم: «أكثر أهل الجنة البُله، وعليون لذوي الألباب» وانظره في سورة المجادلة، وفي حديث البراء: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «عليون في السماء السابعة تحت العرش» وفيه ديوان أعمال السعداء، فإذا عمل العبدُ عملاً صالحاً عرج به وأثبت في ذلك الديوان، وقد رُوي في الأثر: «أن الملائكة تصعد بصحيفةٍ فيها عمل العبد، فإن رضيه الله قال: اجعلوه في عليين وإن لم يرضه قال: اجعلوه في سجين».
ثم نوّه بقَدْره فقال: {وما أدراك ما عليون كتابٌ مرقومٌ} أي: موضع كتاب، أو فيه كتاب مرقوم {يشهده المقربون} أي: الملائكة المقربون، أو أرواح المقربين؛ لأنَّ عليين محل الكروبيين وأرواح المقربين. {إِنَّ الأبرار} من أهل اليمين {لفي نعيمٍ} عظيم، {على الأرائك}؛ على الأسرّة في الحِجال، {ينظرون} إلى كرامة الله ونِعمه التي أولاهم، أو: إلى أعدائهم يعذّبون في النار، وما تحجب الحجال أبصارهم عن الإدْراك، {تعرف في وجوههم نضرةَ النعيم} أي: بهجة التنعُّم وطراوته ورونقه. والخطاب لكل أحد مما له حظ من الخطاب للإيذان بأنَّ حالهم من أثر النعمة وأحكام البهجة، بحيث لا يختص برؤيته راءٍ دون راءٍ.
{يُسقون من رحيقٍ}؛ شراب خالص لا شوب فيه، وقيل: هو الخمر الصافية، {مختومٌ}؛ مغلق عليه، {ختامه مِسْكٌ} أي: مختوم أوانيه وأكوابه بالمسك مكان الطين، كما يفعل أهل الدنيا بأوانيهم إذا أرادوا حِفظها وصيانتها، ولعله تمثيل لكمال نفاسته، أو: أخره وتمامُه مسك، أي: يجد الشارب عند آخر شربه رائحة المسك. وقرئ {خاتِمَه} بكسر التاء وفتحها. {وفي ذلك} الرحيق أو ما تقدّم من نعيم الجنان {فليتنافس المتنافسون}؛ فليرغب الراغبون، وليجتهد المجتهدون، أو فليسبق المستبقون، وذلك بالمبادرة إلى الخيرات، والكفّ عن السيئات.
وأصل التنافس: التغالب في الشيء النفيس، وهو من النفس لعزتها، وقال البغوي: وأصله: من الشيء النفيس الذي تحرص عليه النفوس، ويريده كل أحد لنفسه، وينفَسُ به على غيره، أي: يضِنُّ به.
قوله تعالى: {ومِزَاجُه من تسنيمٍ}: عطف على {خِتامه} صفة أخرى للرحيق، وما بينهما اعتراض مقرر لنفاسته، أي: ما يمزَج به ذلك الرحيق هو من ماء التسنيم، والتسنيم اسم لعين بعينها في الفردوس الأعلى، سُميت بالتسنيم الذي هو مصدر من سنّمه إذا رفعه، لأنها أرفع شراب في الجنة، ثم فسّرها بقوله: {عيناً}، فهو منصوب على المدح أو الاختصاص، أو على الحال مع جمودها لوصفها بقوله: {يشربُ بها} أي: منها {المقربون}، قال ابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهما: فيشربها المقربون صِّرفاً، وتمزج لأصحاب اليمين. اهـ. والمقربون هم أهل الفناء في الذات، أهل الشهود والعيان، والأبرار أهل الدليل والبرهان، وهم أهل اليمين، وذلك أنَّ المقربين لَمّا أخلصوا محبتهم لله، ولم يُحبوا معه شيئاً من الدنيا خلُصَ لهم الشراب في الآخرة وأهل اليمين، لَمّا خلطوا في محبيتهم خلّط شرابهم، فالدنيا مزرعة الآخرة، فمن صَفّا صُفيَ له، ومَن كَدّر كُدّر عليه.
فإن قلتَ: لِمَ أمر بالتنافس في الرحيق ولم يأمر به في التسنيم، مع كونه أرفع؟ قلتُ: قال بعضهم: إشارة إلى أن شربه لا يُنال بسبب، بل بالسابقة، وقيل: إنه مُقدّم من تأخير، وإن التنافس حاصل في الجميع، أو يؤخذ بالأحْرى؛ لأنه إذا أمرَ بالتنافس في المفضول كان التنافس في الأفضل أحرى. والله تعالى أعلم.
الإشارة: قال الورتجبي: كتاب الأبرار كتابٌ مرقوم برقم الله، رقمه بسعادتهم الأزلية، وولايتهم الأبدية، وذلك الكتاب عنده لا يطلع عليه إلاَّ المقربون المخاطبون بحديثه وكلامه، المكاشفون بالحقائق الغيبية قال أبو عثمان المغربي: الكتاب المرقوم: هو ما يُجري اللّهُ على جوارحك من الخير والشر، رقمها بذلك، وهو لا يخاف ما رقم به، وذلك الرقْم معلّق بالقضاء والقدر عن القدرة بمشيئته تعالى عليه، ولا نزوع عن ذلك ولا حيلة له فيه، فهو في ذلك معذور في الظاهر، غير معذور في الحقيقة، هذا لعوام الخلق، وأمّا للخواص والأولياء وأهل الحقائق فإنه رقْم الله على كل شيء أوجده، لم يُشْرف على ذلك الرقْم إلاَّ المقربون، فهم أهل الإشراف فمَن شاهد ذلك الرقْم من المقربين عرف صاحبه بما رقم به من الولاية والعداوة، فيُخبر عنه، وهو الإشراف والفراسة، كما كان لعُمر حين أخبر عنه صلى الله عليه وسلم بقوله: «كان في الأمم مُكلَّمون...» الحديث، أي: فعُمر ممن أشرف على حقائق الرقْم، وعلى معاني الكتاب المرقوم فمَن كان بذلك الحال فهو المكلّم من جهة الحق بلا واسطة. قال الجريري: رقْمٌ رَقَم اللّهُ به قلوبَ عباده بما قضى عليهم في الأزل من السعادة والشقاوة، وبذلك الرقْم خَفي في أسرار العباد، وظهر على هياكلهم، كما قال صلى الله عليه وسلم: «كُلٌّ مُيَسَّرٌ لما خُلق له».
والحاصل: أنَّ الكتاب المرقوم: هو ما سطر لكل أحد في الأزل، فإن رقم له بالسعادة جعلَ في عليين، إشارة إلى أنَّ صاحبه يلحق به، وإن رقم بالشقاوة جعل في سجين، إشارة إلى لحوق صاحبه به. وقوله تعالى: {يشهده المقربون} أي: يشهدونه بعلوم أفكارهم ومكاشفة أسرارهم، وقد ينطقون بذلك في حال الفيض أو الجذب، وهؤلاء هم المكلَّمون، وفي الحديث: «قد كان في الأمم مكلَّمون، وإن يكن في أمتي فعُمر» والمقربون هم أهل الفناء والبقاء.
ثم قال تعالى: {إنَّ الأبرار لفي نعيم} لذة الطاعات وحلاوة المناجاة، على أرائك المقامات ينظرون ما يفعل الله بهم. وقال القشيري: ينظرون في روضات الجنان الروحية والسرية والقلبية، لكل منهم روضة مخصوصة. اهـ. ولعل نظرهم علمياً لا ذوقياً، لأنَّ الذوق للمقربين، تَعْرِفُ في وجوههم نضرة النعيم، وهو ما يظهر على وجوههم من بهجة المحبة ونضرة القُربة ولعل المراد بالأبرار هنا السائرون، ولذلك قال: {يُسقَون من رحيق} خمرة المحبة الأزلية، الصافية من كدر الهوى، مختوم عليه في قلوب العارفين. قال القشيري: أواني ذلك الشراب هي قلوب الأصفياء والأولياء، خِتامه مسك، وهو محبة الحق، لا يشرب من تلك الأواني المختومة إلاَّ الطالبون الصادقون في طريق السلوك إلى الله. اهـ. وفي ذلك فليتنافس المتنافسون، فمَن فاته حظه من هذه الخمرة فهو محروم، كما قال ابن الفارض:
علَى نَفْسِه فَلْيبْك مَن ضاعَ عُمْرُه ** وليس لَهُ مِنْها نَصيبٌ ولا سَهْمٌ

وقال القشيري: وتنافسهم فيه بالمبادرة إلى الأعمال الصالحة، وتعليق القلب بالله، والانسلاخ من الأخلاق الدنية، وجولان الهمم في الملكوت، واستدامة المناجاة. اهـ. ومِزاجه من تسنيم وهو عين بحر الوحدة الصافية، التي قال فيها القطب ابن مشيش رضي الله عنه: وأغرقني في بحر الوحدة.. إلخ، ولذلك فسّرها تعالى بقوله: {عيناً يشرب بها المقربون} فالمقربون يشربونه صرفاً في الدنيا والآخرة، ويمزج لغيرهم، قال بعضهم: لأنه ليس مَن احتمل حمل الصفات كمن قَوِي على مشاهدة الذات، وشربها المقربون صرْفاً لحملهم الذات والصفات جميعاً. اهـ. ولأنهم صفّوا محبتهم في الدنيا من شوائب الهوى، فصفّى شرابهم في دار البقاء، وفي هذا المقام ينبغي التنافس الحقيقي، كما قال الشاعر:
فروحي وريحاني إذا كنت حاضراً ** وإن غبتَ فالدنيا عليّ محابسُ

إذا لم أنافس في هواك ولم أغر ** عليكَ ففي مَن ليت شعري أنافس

فلا تمقتن نفسي فأنت حبيبُها ** فكل امرئ يصبو إلى مَن يجانس

فتنافس الأبرار في حيازة النعيم، وتنافس المقربين في حيازة المنعِم، تنافسُ الأبرار في نعيم الأشباح وتنافس المقربين في نعيم الأرواح، ورضوان من الله أكبر، ذلك هو الفوز العظيم، جعلنا الله من أهل التنافس فيه وفي شهوده، آمنين.

.تفسير الآيات (29- 36):

{إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ (32) وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ (33) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36)}
يقول الحق جلّ جلاله: {إِنَّ الذين أجرموا}؛ كفروا، كأبي جهل والوليد والعاص بن وائل وأضرابهم، {كانوا من الذين آمنوا} كعمّار وصُهيب وخباب وبلال {يضحكون} استهزاء بهم، {وإِذا مَرُّوا بهم يتغامزون}؛ يُشير بعضهم إلى بالعين طعناً فيهم وعيباً لهم، وقيل: جاء عليٌّ في نفر من المسلمين، فسخر منهم المنافقون، وضحكوا وتغامزوا، وقالوا: أترون هذا الأصلع؟ فنزلت قبل أن يصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتكون الآية على هذا مدنية، {وإِذا انقلبوا إلى أهلهم} أي: إذا رجع الكفار إلى منازلهم {انقلبوا فاكهين}، متلذذين بذكرهم بالسوء، أو متعجبين، وقرأ حفص: {فكهين} بالقصر، أي: أشرين أو فرحين، وقال الفراء: هما سواء كطاعن وطعن.
{وإِذا رَأَوهم} أي: رأى الكافرون المؤمنين {قالوا إِنَّ هؤلاء لضالُّون} أي: مخدوعون، أي: خدع محمدٌ هؤلاء فضلُّوا وتركوا اللذّات لما يرجونه في الآخرة من الكرامات، فقد تركوا العاجل بالآجل، والحقيقة بالخيال وهذا عين الضلال، ولم يشعر هؤلاء الكفرة أنَّ ما اغترُّوا به وانهمكوا فيه هو عين الضلال، قال تعالى: {وما أُرسلوا عليهم حافظين} أي: وما أرسل الكفّار على المسلمين، يحفظون أعمالهم ويرقبون أحوالهم. والجملة حال، أي: قالوا ذلك والحال أنهم ما أُرسلوا من جهة الله تعالى موكّلين بهم، مهيمنين على أعمالهم، يشهدون برُشدهم وضلالهم، بل أُمروا بإصلاح أنفسهم، فاشتغالهم بذلك أولى من تتبُّع عورات غيرهم.
{فاليومَ الذين آمنوا من الكفارِ يضحكون}، حين يرونهم مغلولين أذلاء قد غشيتهم فنون العذاب والصغَار بعد العزة والاستكبار، وهم {على الأرائك} آمنون ووجه ذلك: أنهم لمَّا كانو أعداءهم في الدنيا جعل لهم سروراً في تعذيبهم، وقال كعب: بين الجنة والنار كُوَىً، فإذا أراد المؤمن أن ينظر إلى عدوه الذي كان له في الدنيا نظر إليه، دليله: {فاطلع فَرَءَاهُ فِي سَوَآءِ الجحيم} [الصافات: 55] فضحكوا منهم في الآخرة كما كانوا يضحكون منهم في الدنيا جزاءً وفاقاً. {على الأرائك ينظرون} حال، أي: يضحكون منهم ناظرين إليهم وإلى ما هم فيه من سوء الحال، وقيل: يُفتح إلى الكفار باب إلى الجنة، فيُقال لهم: هَلمُّوا إليها، فإذا وصلوا إليها أغلق دونهم، يفعل ذلك بهم مراراً، ويضحك المؤمنون، ويأباه قوله تعالى: {هل ثُوِّب الكفارُ ما كانوا يفعلون} فإنه صريح في أنَّ ضحك المؤمنين منهم جبراً لضحكهم منهم في الدنيا، فلابد من المجانسة والمشاكلة. والتثويب والإثابة: المجازاة، أي: ينظرون هل جُوزي الكفار بما كانوا يفعلون من السخرية بالمؤمنين أم لا؟
ويحتمل أن يكون مفعول: {ينظرون} محذوفاً أي: ينظرون إلى أعدائهم في النار، أو إلى ما هم فيه من نعيم الجنان، ثم استأنف بقوله: {هل ثُوِّب الكفارُ ما كانوا يفعلون} أي: هل جُوزوا بذلك إذا فعل بهم هذا العذاب المهين، و{هل} على هذا للتقرير، قال الرضي: وتختص {هل} بحكمين دون الهمزة، وهما: كونها للتقرير في الإثبات، كقوله تعالى: {هل ثوب الكفار} أي: ألم يَثوبوا، وإفادتها للنفي حتى جاز أن يجيء بعدها إلاَّ قصداً للإيجاب، كقوله تعالى: {هَلْ جَزَآءُ الإحسان إِلاَّ الإحسان} [الرحمن: 60] وقول الشاعر:
وهل أنا إلاّ مِن غُزَيّةَ إن غوت ** غَويتُ وإن تُرشَدْ غزية أرشد

الإشارة: ما قاله الكفرة في ضعفاء المسلمين قاله أهل الغفلة في المنتسبين الذاكرين، حرفاً بحرف، وما أُرسلوا عليهم حافظين، فإذا تحققت الحقائق، ورُفع الذاكرون مع المقربين، وبقي أهل الغفلة مع الغافلين في أهل اليمين، يضحكون منهم كما ضحكوا منهم في الدنيا. وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى الطريق، وصلّى الله عليى سيدنا محمد وآله وصحبه وسلّم.

.سورة الانشقاق:

.تفسير الآيات (1- 5):

{إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ (4) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (5)}
يقول الحق جلّ جلاله: {إِذا السماءُ انشقتْ} أي: تشقّقت أبواباً لنزول الملائكة في الغمام، أو: انشقت وطُويت كطي السجل للكتاب، {وأَذِنَتْ لربها} أي: استمعت، وفي الحديث: «ما أَذِنَ اللهُ لشيءٍ إذنه لنبيٍّ يتغَنَّى بالقرآن» أي: ما استمع، أي: انقادت وأذعنت لتأثير قدرته تعالى حين تعلّقت إرادته بانشقاقها ولم تأبَ ولم تمتنع، {وحُقَّتْ} أي: وحقَّ لها أن تسمع وتطيع لأمر ربها، إذ هي مصنوعة مربوبة لله تعالى.
{وإِذا الأرضُ مُدَّتْ}؛ بُسطت وسُويت باندكاك جبالها وكِّل أمتٍ فيها حتى تصير كالصحفية الملساء، عن أبن عباس: تُمدّ مَدَّ الأديم العُكاظي، منسوب إلى عكاظ سوق بين نخلة والطائف، كانت تعمره الجاهلية في ذي القعدة، عشرين يوماً، تجمع فيه قبائل العرب، فيتعاكظون، أي: يتغامزون ويتناشدون، قاله في القاموس. {وألقتْ ما فيها} أي: رمت ما في جوفها من الموتى والكنوز، كقوله تعالى: {وَأَخْرَجَتِ الأرض أَثْقَالَهَا} [الزلزلة: 2]. {وتخلتْ} منها فلم يبقَ في جوفها شيء، وذلك ما يُؤذن بعِظَم الأمر، كما تلقي الحامل ما في بطنها قبل الوضع. {وأَذِنَتْ لربها} أي: استمعت في إلقاء ما في بطنها، وتخليتها عنه، {وحُقتْ} أي: وهي حقيقة بأن تنقاد لربها ولا تمتنع، ولكن لا بُعد إن لم تكن كذلك، بل في نفسها وحَد ذَاتِها، من قولهم: هو محقوق بكذا، أو حقيق به، والمعنى: انقادت لربها وهي حقيقة بذلك مِن ذاتها، وكذلك يقال في انشقاق السماء. انظر أبا السعود. وجواب {إذا} محذوف، ليذهب المقدِّر كلَّ مذهب، أي: كان من الأمر الهائل ما يقصر عنه الوصف، أو حذف اكتفاءً بما تقدّم في سورة التكوير والانفطار، أو ما دلّ عليه {فملاقيه} أي: إذا السماء انشقت لاقى الإنسان كدْحَهُ. والله تعالى أعلم.
الإشارة: إذا السماء، أي: سماء الأرواح انشقت عن ظلمة الأشباح انشقاق الفجر عن ظلمة الليل، فتغيب ظلمة الأشباح في نور عالَم الأرواح فحينئذ تظهر حقائق الأشياء على ما كانت عليه في الحقيقة الأزلية، فينتفي الحدث ويبقى القِدم. قال الورتجبي: إذا أراد الله قلع الكون، يلقي على السموات والأرض أثقال هيبة عظمته وكبريائه، فتنشق السماء، وتمد الأرض من عكس تجلي عظمته وكبريائه، وحق لهما أن تتصدّعا، لِما عليهما من أثقال قهريات جبروته، حيث يشققهما، وهما طائعتان لربهما، وكيف لا تكون منهما طاعة، وهما في قبضة قهر جلاله أقل من خردلة، ألا ترى كيف قال صلى الله عليه وسلم: «الكونُ في يمين الرحمن أقلِّ من خَردلةٍ» وكذلك يتجلّى لسماء أرواح العارفين وأرض قلوب المحبين بنعت العظمة والكبرياء، فتنشق الأرواح وتزلزل القلوب من وقوع نور هيبته عليها، وبهذا الوصف وصف قلوب المقرّبين عند نزول خطاب الهيبة، قال الله تعالى: {حتى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ...} [سبأ: 23] الآية. قال بعضهم: خطاب الأمر إذا وقع على الهياكل فهي بين مطيع وعاصٍ، وخطاب الهيبة إذا وردت تفني وتُعجز الإقرار معه كقوله: {إذا السماء انشقت} وَرَدَ عليها صفةُ الهيبة فانشقت وأذِنَتْ لربها وأطاعت وانقادت، وحُق لها ذلك، وهو الذي أوجدها. ه وإذا الأرض أرض البشرية مُدت، أي: بُسطت ولانت لأحكام الربوبية بالمجاهدة والرياضة، وألقت ما فيها من الخبائث والعيوب، وتخلّت عنها، وأذنت لربها في أحكام العبودية والعبادة، وحُقَّتْ بذلك؛ لأنَّ في ذلك شرفَها وعزَّها، وجواب {إذا} محذوف، أي: كان من الأسرار والأنوار والمعارف ما لا يدخل تحت دوائر العبارة، ولا تحيط به الإشارة.